الصديق الحميم حاجة إنسانية لكل إنسان سوي ، ولهذا لم يترك الله سبحانه وتعالى أنبياءه بلا صحبة أو حواريين مع تأييده لهم بالوحي ، فكان لكل منهم صديق وفيٌ حميم ، وإذا كان الأنبياء على رفعة قدرهم لم يهملوا هذا الأمر ولم ينحوه جانبا فكيف بعموم الناس ؟ حيث يبقى في حقهم أهم وآكد . وقد اتفقوا أن الصديق ﺃُﺧﺬ من ﻟﻔﻆ ﺍﻟﺼﺪﻕ، ﻭﻫﻮ ﺧﻼﻑ ﺍﻟﻜﺬﺏ . وأما الحميم فمن الاحتمام ، وهو الاهتمام ، وهو الذي يهمه ما يهمك . أو من الحامة بمعنى الخاصة ، وهو الصديق الخاص وتبقى صفاته محل خلاف .ﻗﺎﻝ العتابي ﻟﺼﺎﺣﺐ ﻟﻪ : ﻣﺎ ﺃﺣﻮﺟﻚ إلى ﺃﺥ كريم ﺍﻷﺧﻮﺓ ، ﻛﺎﻣﻞ المروءة ﺇﺫﺍ ﻏﺒﺖ ﺧﻠﻔﻚ ، ﻭﺇﺫﺍ ﺣﻀﺮﺕ ﻛﻨﻔﻚ ، ﻭﺇﺫﺍ ﻧﻜﺮﺕ ﻋﺮﻓﻚ ، ﻭﺇﺫﺍ ﺟﻔﻮﺕ ﻻﻃﻔﻚ ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﺮﺭﺕ ﻛﺎﻓﺄﻙ ، ﻭﺇﺫﺍ ﻟﻘﻲ ﺻﺪﻳﻘﻚ . ﺍﺳﺘﺰﺍﺩﻩ ﻟﻚ ، ﻭﺇﻥ ﻟﻘﻲ ﻋﺪﻭﻙ ﻛﻒ ﻋﻨﻚ ﻏﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﺩﻳﺔ ، ﻭﺇﺫﺍ ﺭﺃﻳﺘﻪ ﺍﺑﺘﻬﺠﺖ ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﺎﺛﺜﺘﻪ ﺍﺳﺘﺮﺣﺖ.
وقال لأعرابي : أريد أن أتخذ صديقا . فقال الأعرابي : اتخذ ﻣﻦ ﻳﻨﻈﺮ ﺑﻌﻴﻨﻚ ، ﻭﻳﺴﻤﻊ ﺑﺄﺫﻧﻚ ، ﻭﻳﺒﻄﺶ ﺑﻴﺪﻙ ، ويمشي ﺑﻘﺪﻣﻚ ، ويحط في ﻫﻮﺍﻙ ، ﻭﻻ ﻳﺮﺍﻩ ﺳﻮﺍﻙ ، اتخذ ﻣﻦ ﺇﻥ ﻧﻄﻖ ﻓﻌﻦ ﻓﻜﺮﻙ ﻳﺴﺘﻤﻠﻲ ، ﻭﺇﻥ ﻫﺠﻊ ﻓﺒﺨﻴﺎﻟﻚ يحلم ، ﻭﺇﻥ ﺍﻧﺘﺒﻪ ﻓﺒﻚ ﻳﻠﻮﺫ ، ﻭﺇﻥ ﺍﺣﺘﺠﺖ ﺇﻟﻴﻪ ﻛﻔﺎﻙ ، ﻭﺇﻥ ﻏﺒﺖ ﻋﻨﻪ ﺍﺑﺘﺪﺍﻙ ، ﻳﺴﺘﺮ ﻓﻘﺮﻩ ﻋﻨﻚ ﻟﺌﻼ تتم ﻟﻪ ، ﻭﻳﺒﺪﻱ ﻳﺴﺎﺭﻩ ﻟﻚ ﻟﺌﻼ تنقبض ﻋﻨﻪ.
ويروى أن رجلا مرت به ضائقة فهرع إلى صديق له وﻗﺮﻉ بابه في ﻟﻴﻞ ﻓﻘﺎﻝ لجاريته : ﺃﺑﺼﺮﻱ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺎﺭﻉ ؟ ﻓﺄﺗﺖ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻓﻘﺎﻟﺖ : ﻣﻦ ﺫﺍ ؟ ﻗﺎﻝ : ﺃﻧﺎ ﺻﺪﻳﻖ ﻣﻮﻻﻙ ، ﻓﻨﻬﺾ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻭﺑﻴﺪﻩ ﺳﻴﻒ ، ﻭﻛﻴﺲ ، وﻳﺴﻮﻕ ﺟﺎﺭﻳﺔ ، ﻭﻓﺘﺢ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻭﻗﺎﻝ : ﻣﺎ ﺷﺄﻧﻚ ؟ ﻗﺎﻝ : راعني أمر ، ﻗﺎﻝ : ﻻبأس عليك ، وساءني ﻣﺎ ﺳﺎﺀﻙ ، وقد أعددت هذا لمثلك ، فخذ هذا المال لنائبتك وهذا السيف ، لعدوك ، وهذه الجارية لخدمتك ولم يسأله عن نائبته . ﻓﻘﺎﻝ : ﺍﻟﺮﺟﻞ : ﷲ ﺑﻼﺩﻙ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﻣﺜﻠﻚ.
وقد ﻗﻴﻞ لحكيم : ﻛﻴﻒ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃن ، ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ؟ ﻗﺎﻝ : ﻣﺜﻞ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻟﺼﺎﺣﺒﻪ ، يحييه ﺑﺎﻟﺘﻨﻔﺲ ويمتعه بالحياة ﻭﻳﺮﻳﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ نضارتها ، ﻭﻳﻮﺻﻞ ﺇﻟﻴﻪ ﻧﻌﻴﻤﻬﺎ ولذتها .
قال ﺳﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﺳﻼﻡ في كتاب الصداقة والصديق : ﻛﻨﺖ في ﺣﺮﺱ المأمون ﻟﻴﻠﺔ ﻣﻦ الليالي ﻧﺎﺋﺒﺎ فخرج المأمون في بعض الليل متفقدا ﻣﻦ ﺣﻀﺮ، ﻓﻌﺮﻓﺘﻪ ، ﻓﻘﺎﻝ لي : ﻣﻦ ﺃﻧﺖ ؟ ﻓﻘﻠﺖ : ﻋﻤﺮﻭ- ﻋﻤﺮﻙ ﷲ- ﺑﻦ ﺳﻌﻴﺪ - ﺃﺳﻌﺪﻙ ﷲ - ﺑﻦ ﺳﻼﻡ- ﺳﻠﻤﻚ ﷲ - ﻓﻘﺎﻝ : ﺃﻧﺖ ﺗﻜﻸﻧﺎ منذ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ. ﻗﻠﺖ ﻳﻜﻸﻙ ﷲ .
ﻓﻘﺎﻝ المأمون : ﺇﻥ ﺃﺨﺎ ﺍﻟﻬﻴﺠﺎﺀ ﻤﻥ ﻴﺴﻌﻰ ﻤﻌﻙ ﻭﻤﻥ ﻴﻀﺭ ﻨﻔﺴﻪ ﻟﻴﻨﻔﻌﻙ ﻭﻤﻥ ﺇﺫﺍ ﺼﺭﻑ ﺯﻤﺎﻥ ﺼﺩﻋﻙ ﺒﺩﺩ ﺸﻤﻝ ﻨﻔﺴﻪ ﻟﻴﺠﻤﻌﻙ .
وقد لخص المأمون في هذه الأبيات الصفات التي يرى توافرها في الصديق الحميم ، وهو كنز ثمين ، وجوهر نادر رصين . الحصول عليه صعب ، والعثور عليه أشق من جوهر البيداء ، غير أن صفاته النادرة لا تنفي وجوده . وقد ﻗﻴﻞ لأحد الأعراب : ﺃﺑﺎ ﻟﺼﺪﻳﻖ ﺃﻧﺖ ﺁﻧﺲ ﺃﻡ ﺑﺎﻟﻌﺸﻴﻖ ؟ ﻓﻘﺎﻝ : ﻳﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﻟﻜﻞ ﺷﻲﺀ ، ﻟﻠﺠﺪ والهزل ، ﻭﻟﻠﻘﻠﻴﻞ والكثير، ﻭﻻ ﻋﺎﺫﻝ ﻋﻠﻴﻪ ، ﻭﻻ ﻗﺎﺩﺡ ﻓﻴﻪ ، ﻭﻫﻮ ﺭﻭﺿﺔ ﺍﻟﻌﻘﻞ ، ﻭﻏﺪﻳﺮ ﺍﻟﺮﻭﺡ . ﻓﺄﻣﺎ العشيق فإنما ﻫﻮ للعين ، ﻭﺑﻌﺾ ﺍﻟﺮﻳﺒﺔ ، ﻭﺍﻟﻌﺬﻝ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺟﻠﻪ ﺳﺮﻳﻊ ، وفي ﺍﻟﻮﻟﻮﻉ ﺑﻪ ﺇﻓﺮﺍﻁ ﻣﺰﺟﻮﺭ ﻋﻨﻪ ، ﻭﺣﺪ ﻣﻮﻗﻮﻑ ﺩﻭﻧﻪ ، ﻓﺄﻳﻦ ﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺫﺍﻙ ؟ﻗﺎﻝ ﺍﺑﻦ ﻣﻨﺎﺫﺭ : ﻛﻨﺖ ﺃﻣﺸﻲ ﻣﻊ الخليل بن أحمد ( العالم الجليل ) ﻓﺎﻧﻘﻄﻊ ﺷﺴﻊ ﻧﻌﻠﻲ ﻓﺨﻠﻊ ﻧﻌﻠﻪ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ : ﻣﺎ ﺗﺼﻨﻊ ؟
ﻗﺎﻝ : ﺃﻭﺍﺳﻴﻚ بالحفاء . ومما يرد في وفاء الطفولة وحميميتها أن طفلة تأخرت عند جيرانها فقلق والدها وسألها مابالك قد تأخرت كل هذا الوقت عند صديقتك فقالت : حين هممت بالخروج كُسرت لعبة صاحبتي . فقال الوالد : فقمت بمساعدتها على إصلاحها ! قالت : لا . فقال الوالد : فما أخرك إذا ؟ قالت : كنت أواسيها بالبكاء .
نحن بحاجة إلى إعادة العناية بمفهوم العلاقة بالصديق الحميم ، والعناية بهذه العلاقة الإنسانية النبيلة القائمة على الحميمية والصدق والوفاء تلك العلاقة البعيدة عن دهاء تصيد المصالح الوضيعة والمظاهر المزيفة . لأن في عودة هذا المفهوم ترابط وتآزر المجتمع ، وتماسكه ، وتخفيف حدة الفردانية الطاغية والأنانية المستشرية والغرور المستطير والتدابر المقيت ، ولاشك أن الترابط يؤدي إلى التآخي ووحدة الصف ، وهذا مقصد من مقاصد الشريعة .
ونختم بقول أحد الحكماء حين وصف الصداقة بقوله : الصداقة أذن صاغية ، وقلب محب متفهم ، ويد حانية مساعدة .
نشر في صحيفة المجاردة الالكترونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق